يا نيل يا طويل يا ملولو !!



[ 1 ]
توجه إلى أقرب " ماسورة " .. افتحها .. لو كنت محظوظاً أو تمتلك " موتور " ( سحّاب ) فان منطق الأشياء يقول أن الماء سينزل من فوهة الـ " ماسورة " ما لم تكن هيئة المياه قد غيرت نشاطها.هذا الماء تعرفه الموسوعات العلمية أنه مركب كيميائي من ذرتي هيدروجين و ذرة أكسجين (راجع كتاب الكيمياء للصف الأول الثانوي إن كنت قد نسيت هذه المعلومة الأولية ) و يفترض في هذا السائل انه شفاف ، عديم اللون و الطعم و الرائحة . و هو افتراض يحتاج إلى مراجعة في حالة ماء الماسورة السودانية الذي يمتاز باللون و الطعم و أحياناً الرائحة .يأتيك هذا الماء من نهر النيل ( ما لم تكن من سكان الثورات و غيرها ممن يشربون من الآبار ) ، و عن نهر النيل نحكي .

[ 2 ]
لهواة المعلومات العامة و عشاق الأرقام و مسابقات كم يبلغ ارتفاع قمة ايفرست و من هو مكتشف الراديوم و محبي مواضيع " هل تعلم " في الصحف أقول أن نهر النيل يبلغ إجمالي طوله 6650 كم ، و هو يخوض صراعاً قديماً و حاداً مع نهر الأمازون على لقب النهر الأطول في العالم . و لكل واحد من النهرين مؤيدوه تماماً كمشجعي فرق كرة القدم . و يقال أن نهر الأمازون في ذاته اقصر من نهرنا لكن الأمازون الوغد يستعين بروافد عديدة تزيد من طوله . هذا الصراع يذكرني بصراعات العم دهب على لقب أغنى بطة في العالم في مجلات ميكي .يمر نهر النيل بتسع دول كما تؤكد المراجع العلمية. هذه الدول هي : أوغندا – أثيوبيا – السودان – الكونغو – بوروندي – تنزانيا – رواندا – كينيا – مصر .و هي معلومة محيرة ، فبالنسبة لي كرجل شارع علاقته بالعلم انه السحر الذي يمدك بجهاز الريموت كنترول الذي يسمح لك بتغيير قنوات التلفزيون دون أن تفارق مقعدك فان النيل في رأيي يبدأ من تحت كوبري شمبات ، ثم يجري شمالاً من أبوروف حتى الإسكندرية.لكن الدقة العلمية تقول أن النيل يمر بكل تلك الدول بحساب الروافد ، و هي الدول المعروفة بدول حوض النيل .الغريب أنه رغم هذه المعلومة المتوفرة في أي كتاب عن نهر النيل العجوز إلا أن الإعلام المصري شكلنا على أن الحديث عن وحدة وادي النيل التاريخية حيث النيل الواحد و المصير الواحد تعني مصر و السودان .أحب أن أرى مسئولاً مصرياً يخطب في حشد من الجنرالات البورونديين متحدثاً في حماس عن وحدة وادي النيل بين مصر و بوروندي التين يجمعهما النيل الواحد و المصير الواحد.سيسر الأفارقة بسماع هذا الكلام

[3]
لنهر النيل تاريخ طويل .. طويل جداً .. أطول من كيلومتراته الستة ألف.تاريخ يمزج بين هوميروس الإغريقي و بطليموس و أبي بكر الإدريسي و نيرون الروماني و صعاليك أوروبا من المستكشفين أمثال روس و ليفنجستون و جون اسبيك و المندوب السامي البريطاني.و هو مزيج فريد لا يقدر عليه إلا هذا النهر الطويل المتعب.

[ 4 ]
يقول هوميروس الشاعر الإغريقي العبقري مؤلف ملحمتي الإلياذة و الأوديسة : "النيل سيل نازل من السماء" . و هي شهادة محترمة و رأي جليل مهم من عبقري الأدب الإغريقي لا سيما إذا تذكرنا أن اسم النيل ذاته مشتق من لفظة نيلوس الإغريقية.و هذا الرأي اهتمام مشكور و مقدر من هوميروس في زمن لم تكن فيه وسائل اتصال ليكون النيل من ضمن اهتماماته و لا قنوات جغرافية تلفزيونية . من الجميل أن يهتم هوميروس الإغريقي بالنيل الإفريقي في عصر ما قبل الناشونال جيوغرافيك .لا يعيب هذا الرأي الجليل إلا أن الخلاف لا زال قائما حول حقيقة هوميروس نفسه.. هل وجد حقاً أم هو مجرد أسطورة ؟و حتى يحسم دارسو الأدب الإغريقي هذا الخلاف فاني أتوجه بالشكر للأخ هوميروس على اهتمامه بالنيل رغم بعد الشقة.

[ 5 ]
نيرون الإمبراطور الروماني المجنون كان من أوائل الذين اهتموا بالنهر الطويل المتعب .هذا الإمبراطور الذي حكم روما و هو في السادسة عشر من العمر ثم اكتشف انه يمتلك مقومات و مواهب أخرى غير فن إدارة الإمبراطورية . و هو الاكتشاف الذي لم يوافقه عليه احد في التاريخ قط .قرر نيرون فجأة أنه مغني بارع و ممثل قدير و لاعب قيثارة مخضرم و قائد عربات حربية من الطراز الأول قبل أن يضيف الاكتشافات الجغرافية إلى اهتماماته و مواهبه .و هو بهذا يكون سلفاً للرئيس نميري الذي أعلن نفسه كشافاً أعظماً ، و القذافي المفكر ، و صدام المؤلف الروائي . يبدو أن وظيفة الرئيس ليست مربحة بما فيه الكفاية دوماً حتى لو كنت امبراطوراً لروما ذاتها .و لنيرون يرجع الفضل في اكتشاف نظرية ثورية لمواجهة النقد الموجه للأعمال الفنية . فبعد أدائه لمشهد مسرحي قامت زوجته الأولى ( و قد كان اسمها أوكتافيا ) بتقديم تعليق صغير برئ على المشهد حيث يسقط في أثنائه الصولجان من يد نيرون . قالت المدام في رقة محاولة توجيه نقد بناء : " رائع ، فقط لو لم يسقط الصولجان من يدك لكان أفضل " . كانت هذه العبارة سبباً كافياً لنيرون ليأمر بقتلها فوراً . بعدها لم يجرؤ أحد على توجيه أي انتقاد أو ملاحظة على أعماله.و هذا القتل قد تم بذات منطق الملك هنري الثامن الذي أعدم زوجته لأنها تبادلت حديثاً ودياً مع عازف في إحدى حفلات البلاط الملكي .إن جمعيات مكافحة العنف ضد المرأة لم تكن ناشطة بما يكفي في ذلك الزمن .و في فورة من فورات جنونه قرر نيرون أن يكتشف منابع النيل.و لما كان الإمبراطور الشاب مشغولاً بالتمثيل و الغناء و قطع أعناق زوجاته – دعك طبعاً من اللهو بالكبريت كأي طفل مدلل استعداداً لحرق روما – فقد قرر إرسال ضابطين من جيشه لأداء هذه المهمة .و في زمن كان الناس فيه يعتقدون أن النيل ينبع من جبال القمر و يسكن حول منبعه عمالقة متوحشون فان تلك المهمة كانت مهمة انتحارية جديرة بالأخ رامبو لا بضابطين بائسين من الجيش الروماني.الضابطان غابا لفترة ثم عادا ليخبرا الإمبراطور أنهما وصلا لمنطقة مستنقعات عجزا عن تجاوزها فعادا إلى روما .لا اعلم هل صدقهما نيرون أم لا لكني أحسبهما قضيا بضعة أشهر في الإسكندرية ينعمان بوقتهما ثم عادا إلى طفل روما النزق ليخبراه بما يتوقع سماعه . و هي حكمة صالحة لكل زمان و مكان .. لا تخبر طاغية إلا ما يرغب في سماعة أو يتوقع سماعة .. ما لم تكن مستعداً لدفع الثمن طبعاً .

[ 6 ]
المستكشفون الأوروبيون لهم مكانة خاصة في تاريخ النهر العجوز .لا يمكننا الحديث عن نهر النيل ما لم نمر على ذكر رجال حملوا عبء الرجل الأبيض و دخلوا قلب القارة السمراء ليعيشوا مع قبائلها و يأكلوا الكاسافا و المانجو النيئة و يصابوا بالملاريا و الكالازار ثم يعودون إلى نوادي لندن و صالوناتها ليحكوا عن البؤس و المرض و الهمجية و القسوة و الفسق ، و يحرضون جيوش صاحبة الجلالة لتنقذ هؤلاء الهمج من أنفسهم . و لا بأس أن يسأل أحدهم متعجباً عن كيف يقبل الرجل الأبيض المتحضر الذي يقضي أمسياته في نوادي السلاح و صالونات التدخين أن يتغاضى عن هذه الوحشية التي تحدث في أفريقيا .في ذلك الزمن لم يكن الأوروبي يمارس نشاطاً أكثر من ارتياد النوادي و التدخين و الدعاء ليحفظ الله الملكة و التأكيد أن البلد ذاهبة إلى الكلاب . فان وجد وقتاً ذهب إلى الهند أو مصر ليتأكد كم هو رائع و متقدم ثم يعود إلى الصالون أو النادي ليشارك رفاقه هذه التجربة .لا داعي للإشارة أن هذه الصالونات و النوادي كانت تمنع دخول النساء و الكلاب .. و طبعاً لا مكان للحديث عن الزنوج هنا أساساً .عن أحد هؤلاء السادة المتحضرين و علاقتهم بالنهر نحكي قليلاً .فقط أذكر قبلها عبارة لأحد القادة الأفارقة قالها في مؤتمر لدول عدم الانحياز حين كان شئ كهذا ممكناً :" حين أسمع عبارة أن فلان اكتشف البلد الفلاني أشعر بالغيظ . كينيا و أوغندا موجودتان منذ خلق الله الدنيا . هذا الرجل لم يتكشف شيئاً ، هو فقط وضع قبضة الاستعمار على أرض جديدة ".

[ 7 ]
جيمس بروس من أوائل المستكشفين الذين سعوا لاكتشاف منبع النهر العجوز . و ارتبط اسمه بالنيل الأزرق خاصة .ولد بروس في اسكتلندا . كان طويل القامة ، أحمر الشعر ، عالي الصوت ، يتحدث عدة لغات منها العربية و الأثيوبية .في طباعه زهو طفولي . لم يكن بروس مصلحاً اجتماعياً و لا مفكراً أخلاقياً . هو رجل يتقبل الدنيا كما هي .تزوج بروس في شبابه من ابنة تاجر خمور ثري . و اعتماداً على مكانة أصهاره أصبح بروس غنياً و مشهوراً.هذا رجل شجاع لا يخشى أن يقال عنه زوج المدام . لكن الزوجة التي كانت مفتاح الثراء و الشهرة توفيت سريعاً .أصيب بروس بالإحباط. و على حين يسرع غيره ممن تموت زوجاتهم بالبحث عن زوجة أخرى أو يسعون للزواج من أخت المرحومة أسرع بروس بالخروج من أوروبا .اتجه الزوج الأرمل المكلوم إلى إفريقيا . عمل قنصلاً بالجزائر لفترة قبل أن ينتقل إلى قلب القارة لاهثاً خلف منابع النيل . زار بروس الحبشة و تقرب من نجاشيها و ارتحل إلى سنار و تنقل مع النهر محاولاً فهمه .و حين عاد إلى أوروبا وصف ما شاهده للمجتمع الأوروبي المتعطش لتأكيد أنه الأرقى و الأفضل و الأعلى في سلم تطور البشرية .حكى بروس عن الفسق و المجون ، و عن أقوام يصيدون بعضهم ، و عن أمهات دون العاشرة ، و عن أناس يتعطرون بدم البقر و يأكلون اللحم الحي .يقول آلان مورهيد عن ما كتبه بروس عن رحلته :" الأشخاص الذين يكتب عنهم بكل ثقة و إلفة كانوا يومئذ غرباء عن أوروبا و العالم المتحضر غرابة سكان الفضاء الخارجي بالنسبة لنا في الوقت الحاضر " .الأوروبي في القرن العشرين يستبدل – عبر أفلام هوليوود – الغريب الإفريقي بسكان المريخ خضر اللون و بالمخلوق الفضائي إي تي . تماماً كما تم استبدال العدو الشيوعي بالإرهابي المسلم.

[ 8 ]
من الأشياء التي تستوقفك عند قراءة تاريخ المستكشفين مسألة تسميتهم للاماكن الجديدة التي يرونها لأول مرة في حياتهم .فبكل الغرور الذي يمكن أن نتخيله يصل المستكشف إلى بحيرة في إفريقيا يسكن حولها عشرات البشر منذ مئات السنين و يسمونها بحيرة أوكيروي ، فيقف أمامها نافشاً صدره رافعاً أنفه و يعلن أن اسم هذه البحيرة من اليوم هو بحيرة فيكتوريا . لماذا ؟ طبعاً لأنه وجدها . و من وجد شيئاً فمن حقه أن يسميه . فماذا عن البشر الذين يعيشون هنا و يطلقون على هذه البحيرة اسماً ؟ طبعاً لا احد يهتم بهم أو بما يسموه . إنهم متوحشون لا يعرفون شيئاً . ماذا يعني اسم اوكيروي ؟ هل يقارن هذا الاسم باسم جلالة الملكة ؟ إن من حسن حظ هؤلاء القوم أن الرجل الأبيض جاء ليكتشفهم و يطلق أسماء على أماكنهم .هكذا – في القرن الثامن عشر – بينما كانت الملكة فيكتوريا مشغولة في قصرها بشرب شاي الساعة الخامسة أو منهمكة في إطلاق اسمها على طراز الأثاث الفيكتوري كان رعاياها يقلبون العالم حجراً حجراً و يسمون البحيرات باسمها و أسماء عائلتها كألبرت و ادوارد .هكذا فليكن الغرور و إقصاء الأخر و إلا فلا .

[ 9 ]
و نهر النيل ارتبط بمصر حتى كاد يكون حكراً لها دون غيرها من الشركاء التسعة .و هو ارتباط بدأ منذ قديم الزمن تجده متناثراً في كثير من الكتابات ، ثم رسخت له آلة الإعلام الغربي المفتون بأجواء مصر الفرعونية و عروس النيل و قصص ألف ليلة و ليلة و سارت عليه الدعاية المصرية النشطة . مصر هبة النيل . وحدها .حين يصف القزويني في كتابه أثار البلاد نهر مهران في بلاد السند يقول : فيه تماسيح كما في نيل مصر .و تتكرر عبارة نيل مصر في كثير من الكتابات لكن لم أقف على أحد أضاف النيل إلى السودان أو أثيوبيا أو تنزانيا .أما حقوق مصر التاريخية فهي عجب .و من أغربها ما ورد في مخاطبات بين المندوب البريطاني السامي في مصر و رئيس مجلس الوزراء المصري عام 1929م . كانت الحكومة البريطانية قد نوت زيادة الرقعة الزراعية في مشروع الجزيرة فأرسل رئيس الوزراء المصري للمندوب السامي يقول له أن هذا الأمر : قد أحدث قلقاً شديداً في البلاد .و يأتي رد المندوب السامي مؤكداً : أن الحكومة البريطانية مع عظم اهتمامها بتقدم السودان لا تنوي مطلقاً الافتئات على ما لمصر من الحقوق التاريخية و الطبيعية في مياه النيل .و بقدر ما تبدو عبارة الحقوق الطبيعية مفهومة تبدو عبارة الحقوق التاريخية غريبة و غير منطقية . فان كان الواقع قد تغير و حصص الشركاء في حاجه إلى مراجعة فهل للحقوق التاريخية أي قيمة هنا ؟ لكنها السياسة العليا التي تستغلق على أمثالي . لهذا هم وزراء و مناديب إمبراطوريات و أنا كاتب مسكين يقضي العمر دهشة .

[ 10 ]
لكن احتفاء مصر و المصريين بالنيل عظيم لا يقاس بنا أو بغيرنا .انظر إلى الفنون المصرية و الأغاني و الأشعار و كيف تمجد النيل و تمدحه . " مصر هي أمي . نيلها هو دمي " .جاء شباب الآن يقولون مصر ليست أمي بل هي زوجة أبي .. لكنهم لم ينكروا فصيلة دمهم بعد.و غنى عبد الحليم حافظ :" يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر "أما ألطف ما قاله مصري في النيل فهو ما نظمه احمد بك شوقي و غناه عبد الوهاب :" النيل نجاشي .. حليوه اسمر .. أرغوله في ايده .. يسبح لسيده .. حياة بلادنا .. يا رب زيده "لا تسألني عن معنى هذا الكلام فهي عامية شوقي الأمير حين يقرر أن ينزل من برج شعره ليقول كلاماً يصلح لمرتادي القهاوي . يبدو أن رواد القهاوي في مصر في ذلك الوقت كانوا على قدر كبير من الثقافة ليفهموا هذا الكلام . إن العامي الذي يطرب لكلمة أرغول لهو عامي جدير بالاحترام .و عن علاقة المصريين بالنيل أبدا محمد حسنين هيكل ملاحظة طريفة .إن الجموع المصرية عند كل محنة تتجه – لا شعورياً – إلى النيل . حدث هذا في مظاهرات النكسة و يوم وفاة عبد الناصر .هؤلاء القوم أحبوا النيل حقاً فاستحق أن ينسب إليهم .

[ 11 ]
إلى نيل السودان حبي وسلامي .. و ..اجري يا نيل الحياةفمصر تنتظرك لتقدرك أكثر .


***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق