سجمي إنت لسه حي !!


[1]
الرجل الظريف الذي يندر أن يجود الزمان بمثله الدكتور عوض دكام رحمه الله كان يبحث عن منزل أحد معارفه بحي الامتداد .. فطرق احد الأبواب ليسأل .. فإذا بالبيت هو بيت الرئيس السابق الفريق إبراهيم عبود رحمه الله .. و إذا بالرئيس يفتح الباب بنفسه ..
فزع الدكتور دكام و قال لعبود بدهشة : " سجمي هو انت لسه حي ؟؟ ".

[2]
يبحث الحكام دوماً عن وسيلة للخلود في ذاكرة أوطانهم .. فيعبدون الطرق أو ينشئون المصانع الضخمة طلباً لهذا الخلود .. بعضهم يختصر الطريق عالماً أن الخلود في ذاكرة الشعب بصفة يرحمه الله صعبة فيستسهل الخلود بصفة لعنة الله .. و كله لدى الحكام خلود.
أما الشعب فانه يعبر للحكام عن رأيه بعدة طرق.
في بعض البلدان يستخدمون مراكز قياس اتجاه الرأي العام .. و يلجئون الى الاقتراع و الاستفتاء .. بل انه – تخيل هذا – لديهم أمراً يسمى الانتخابات حيث يحق للشعب أن يختار الرئيس أو غيره ليحكمهم .. بل إنهم يجبرون الرئيس على التنحي بعد فترة زمنية معينة. عجائب العالم لا تنتهي .
لكن الطريقة الأدق لقياس الرأي العام غالبا هي النكتة. بل إن بعض الدول لديها مراكز متخصصة لجمع النكات و تحليلها لمعرفة رأي الشعب الصادق.
فان كانت الحكمة قد قالت للشعوب أنه " كما تكونوا يولى عليكم " .. فإن الحكام عليهم أن يذكروا انه " كما تكونوا يُنَكّت عليكم ".

[3]
النكتة السياسية صادقة لا تكذب. إنها التعبير الشعبي العفوي الذي لا يجامل . هي انجح وسيلة استفتاء سياسي للحكام.
مضحكة هي لكنها أيضا موجعة .. تريح قائلها لكنها تقتل من قيلت فيه.
النكتة السياسية كما قيل عنها هي اخطر سلاح يرفعه البسطاء في وجه السلطة و هي رسالة الشعوب المشفرة الى حكامهم.
يستطيع الحاكم أن يمنع التظاهر .. أن يحظر الندوات .. أن يشنق المعارضين .. أن يزور الانتخابات .. لكنه لا يستطيع أبدا أن يزور النكتة أو يشنقها أو يحظرها أو يمنعها.
ربما لهذا اختار احمد مطر الشاعر و المعارض العراقي طريق النكتة الشعرية ليوجع بها الحكام. ففوق سلاح الشعر صنع لنفسه سلاحاً إضافيا من النكتة .
إن الحاكم الذي يصادر النكتة هو حاكم عبقري يستحق أن يستبد بشعبه ما شاء.


[4]
من أقدم من قال النكتة السياسية هو جحا .. و في التاريخ أكثر من جحا .. و كلهم كان ساخرا يطلق سهامه الساخرة على الحكام فيضحك منها الشعب.
و يروي التاريخ عن جحا التركي أن تيمورلنك قال له إن خلفاء العباسيين في بغداد يسمون أنفسهم المعتصم بالله و المنتصر بالله فماذا يسمي هو نفسه ليتشبه بهم ؟
قال جحا: سم نفسك أعوذ بالله.

[5]
اشتهر المصريون خصوصاً بالنكت السياسية .. حتى قيل أن عبد الناصر بعد هزيمة 1967م التي نسميها نكسة لأسباب مجهولة كأنها ما كانت حرباً بل تدريباً عسكريا متواضعاً فأخفق .. عقب هذه الهزيمة/النكسة طالب عبد الناصر المصريين بكف سلاح النكتة قليلاً.
لقد أوجع المصريون فرعونهم فاضطر أن يلجأ إليهم بالرجاء بدلا من أن يرسل صلاح نصر ليشنق قائل النكتة.
في أيام الاحتلال البريطاني لمصر كان هناك مقهى اسمه المضحكخانه ..و هو اسم تركي كما تلاحظ مثله مثل الشفخانه أو غيرها من الخانة أكرمكم الله من غيرها هذه. و معناه بيت الضحك.
كان الأدباء يجتمعون في هذا المقهى و يتبارون في إطلاق النكت على الانجليز و السرايا و الملك. و كان الناس يقصدون المقهى من كل أطراف مصر لسماع هذه النكات و كان البوليس يداهم المكان ليلقي القبض على قائل نكتة معينة أحياناً .
بعد أن زال الاحتلال و أصبح سلاح النكتة يستعمل ضد آخرين تمت إزالة المقهى و يشغل مكانه الآن إدارة الأمن العام بباب الخلق. و لله في خلقه شؤون.
يقول الكاتب المسرحي علي سالم .. و هو مؤلف المسرحية الأشهر مدرسة المشاغبين قنبلة الضحك المصرية التي غيرت اتجاه المسرح الكوميدي في مصر .. يقول : إن النكتة السياسية في مصر حالة أدبية فريدة من نوعها، لا أحد يعرف من أين تأتي، ويقول: "النكتة بشكل عام سواء السياسية أو غير السياسية هي عمل درامي مستقل بذاته، وهو عمل له تركيبة أدبية مضغوطة ومكثفة".
طبعاً يحاول بعض الباحثين المصريين إرجاع تاريخ النكتة السياسية الى العهد الفرعوني و هي محاولة مفهومة إذا عرفنا أن بعضهم يدعي أن أصل التوحيد هو الديانات الفرعونية .. و أن بنو عبد مناف من مدينة منف المصرية .. و أن القوانين أصلها فرعوني .. و نظم الحكم أصلها فرعوني .. بل كتب احدهم بحثا تاريخيا في مجلة روز اليوسف من قبل يقول أن شخصيات الرسوم المتحركة توم و جيري (Tom and Gerry) مأخوذة من البرديات الفرعونية .. و لا ننسى ما يحكى عن نموذج عصفور فرعوني محفوظ في المتحف المصري قيل أن نيل ارمسترونج و رفاقه عندما رأوه تنبهوا أنه يشبه الطائرة و بعد فحصه ثبت أنه مصنوع بدقة الطائرات !!
يخيل لي حين استحضر هذه الادعاءات أن الكاتب المصري الفرعوني بتمثاله الشهير لم يكن يستعمل أوراق البردي للكتابة بل كان يكتب على برنامج ويرد 5000 ق.م.(Word 5000 B.C.).


[6]
تمتاز النكت السياسية بالمرونة و القابلية للتطوير و التحويل . فكم من نكتة قيلت في رئيس انتقلت الى الرئيس الذي يليه. و هذا لا يدل على فقر في الإبداع لدى المخيلة الشعبية بقدر ما يدل على مقدرة هذه المخيلة على التقاط التشابه أو التطابق بين الرؤساء المختلفين.
إن لم يكن ذلك صحيحا فقل لي بربك كيف يطلق الشعب الامريكي نكتة على الرئيس جون كيندي عام 1961 ثم يكرر ذات النكتة عن الرئيس بيل كلينتون عام 1999 ؟
تقول النكتة أن الرئيس (كيندي/كلينتون) دخل محطة بنزين برفقة زوجته (جاكلين/هيلاري) فنظرت الزوجة الى عامل المحطة و قالت : لقد كنت أواعد هذا الرجل في المدرسة الثانوية و كان من المفروض أن نتزوج . فقال لها الرئيس ضاحكاً : لو حدث هذا لكنت الآن زوجة لعامل في محطة وقود. لكن الزوجة قالت في هدوء : لو حدث هذا يا عزيزي لكان هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.


[7]
و بعض النكات تنتقل من بلد الى بلد و يدعيها كل شعب لرئيسة بكل فخر ..
تقول إحدى النكات أن رئيس الدولة غضب لأسباب ما على السياسة السعودية فقرر مقاطعة المملكة العربية السعودية .. لكن أحد الوزراء نبهه الى أن الحجيج من بلده لا يمكن منعهم عن السعودية .. فقرر الرئيس أن يكون الحج في بلاده بدلاً عن السعودية .. بعد أسبوع جاءه احد الوزراء يعلن له أنهم نجحوا و اعدوا كل شئ و أن الترتيبات تمت لإقامة موسم الحج في بلدهم بدلا عن السعودية ..أحب الرئيس المتشكك أن يتأكد من ذلك فسأل عن المبيت بمنى فقيل له سيبيتون في الساحة الفلاني .. سأل عن الصفا و المروة فقيل له سيسعون بين النقطة الفلانية و النقطة الفلانية .. أخيرا بعد أن تأكد من كل شئ سأل عن رمي الجمرات و رجم إبليس .. ابتسم الوزير و قال في رجاء : اتعب معانا شويه سعادتك.
هذه النكتة تتكرر في أكثر من دولة عربية يتغير فيها اسم الرئيس و الوزير و الأماكن لكن التفاصيل تبقى هي ذاتها.
إنها إدانة شاملة لكل الحكام من شعوبهم.

[8]
خذ عندك نكتة مثل التي تقول أن القائد العسكري قال للمجند : حين يمر الرئيس قم بإطلاق 21 طلقة .. فقال المجند : و إذا أصبته من أول طلقة هل أتوقف ام استمر يا سيدي ؟
هذه النكتة لا تتقيد بحدث بل هي تعبير عام عن السخط و الرغبة في الإقصاء.
في مصر الملكية هوجم نجيب محفوظ لأنه كتب رواية فرعونية عن ملك عابث يقتله الشعب بسهم في صدره .. و اعتبرت الرواية تحريضا ضد الملك فاروق ملك مصر و السودان الذي اعترف أتباعه بالتشابه حين قالوا إن المقصود بالرواية هو الملك فاروق لأن الشعب يسميه الملك العابث تماما مثل الفرعون في رواية محفوظ.
بعض النكات تحمل ذات الرغبة القوية في التخلص من الحاكم لذلك تتحدث عن موت الحكام و حاسبهم يوم القيامة.
لكن بعض النكات توضح أن الحكام حتى عند آخر رمق يحرصون على الظلم الذي كانوا يمارسونه.
تقول النكتة أن رئيسا يُحتضر اخذ يوصي وزرائه : أوصيكم بالحكومة. فيقولون : الحكومة في أمان يا ريس. فيقول : أوصيكم بالبلد. فيقولون : البلد في عيوننا يا ريس. ثم قال : أوصيكم بالشعب. فقالوا له : شعبك قوي يأكل الزلط. فرفع الرئيس رأسه و قال : توكيل الزلط أعطوه ابني (... ).
وضعت النقاط حرصاً على علاقات السودان بدول الجوار .. يمكنك أن تقوم أنت بملئها عزيزي القارئ و تتحمل المسؤولية كاملة.

[9]
و تعبر النكات السياسية عن حالة الاحتقان لدى الشعب بخفة دم لاذعة.
تقول النكتة أن الرئيس قيل له ألن تلقي كلمة الوداع على الشعب قبل الانتخابات ؟ فسأل الرئيس بدهشة : ليه ؟ الشعب ماشي وين ؟
أما الفساد فيمد له الشعب لسانه ساخرا منه ليذكره أنه يعرفه و أنه مكشوف له ..
تقول النكتة أن احد الوزراء العرب زار صديقه الوزير البريطاني فاستضافه على الغذاء عندما وصل بيته وجد أن البيت قصرا فخما له حدائق و طوابق عديدة فقال له كيف بنيت هذا القصر الفخم ؟ ضحك الوزير البريطاني و أشار من النافذة الى جسر ضخم و قال للوزير العربي هل ترى هذا الجسر ؟ قال الوزير العربي نعم. قال له إن تكلفته الفعلية 100 مليون إسترليني و نفذتاه بـ 90مليون فقط و أخذت أنا الفرق.بعد أيام قام الوزير البريطاني بزيارة صديقه الوزير العربي فوجده يعيش في قصر أفخم من قصره و أكبر منه بمراحل فانبهر الوزير البريطاني وسأله كيف بنيت قصرا كهذا ؟ ضحك الوزير العربي و أشار من النافذة قائلا هل ترى هذا الجسر ؟ نظر الوزير البريطاني و قال : لا يوجد أي جسر هنا !!!فقال له الوزير العربي : هذا تكلفته 100 مليون دولار فقط و أخذت أنا الفرق.

[10]
ينسى الحكام الذين يحصلون على نتائج 99.9% في الانتخابات أن الشعب قد حكم عليهم بالتنحي بدون انتخابات مزورة أو خاضعة للضغوط.
تقول النكتة أن احد الرؤساء في طائرته الرئاسية قال لمرافقيه : أريد أن اسعد شعبي فماذا افعل ؟
فقال له وزير: القي بـ5000 دولار من النافذة و ستسعد خمسة أسر يا سيدي. اندفع وزير أخر يقول: القي بـ1000 دولار من النافذة و ستسعد عشرة أسر يا سيدي. فالتفت إليهم الطيار و قال مخاطباً الرئيس: القي بنفسك من النافذة و ستسعد الشعب كله يا سيدي.

[11]
في السودان انتشرت النكتة السياسية في أيام الرئيس الأسبق جعفر نميري انتشارا غير مسبوق حتى قيل أن السادات سخر من الشعب السوداني حين علم أنهم أصبحوا يطلقون النكات على الحكومة فقال : يبقوا جاعوا .
الجوع جعل الناس تقول أن رجلاً ذهب الى صف العيش فلم يجد فسب قائلاً : لعنك الله يا عباس.ثم ذهب الى صف الغاز فلم يجد فسب قائلاً: لعنك الله يا عباس. ثم ذهب الى صف البنزين فلم يجد فسب قائلاً:لعنك الله يا عباس. فألقت الشرطة القبض عليه و قُدم الى محاكمة فاصدر القاضي أمره بحبسه سنة. سأل المواطن في دهشة عن سبب الحكم فقال القاضي في حسم: لأنك لا تعرف اسم الريس.
نميري كان يسمع هذه النكات و يضحك حتى دخلت النكات القصر في غيبته لدى الأمريكان. أظنه لم يضحك منها بعد ذلك.

[12]
لا أعجب لبقاء الحكام على قيد الحياة بعد أن يفارقوا الحكم .. لكني أعجب أنهم يبقون على قيد الحياة بعد أن يطلق الشعب عليهم نكاته ..
و أعجب ألف مرة من الحكام الذين تتجاهلهم المخيلة الشعبية فلا تخلدهم حتى بنكتة .. الحكام الذين لا يقول الشعب فيهم كلمته هم حكام لم يوجدوا قط .. مهما فعلوا.
لذلك هم لا يموتون .. فالمعدوم لا يموت.


***


هناك تعليقان (2):

  1. يخيل لي حين استحضر هذه الادعاءات أن الكاتب المصري الفرعوني بتمثاله الشهير لم يكن يستعمل أوراق البردي للكتابة بل كان يكتب على برنامج ويرد 5000 ق.م.(Word 5000 B.C.).


    ههههههههههههههه

    الى هنا ولم استطع اكمال النص-من الضحك


    اضحك الله سنك

    ردحذف
  2. شكرا على مدونتك الرائعة

    ردحذف