عندما هاجرت الداية


الطقوس الاحتفائية – التي تصل حد المبالغة – في تعامل قرية " كلّرو" مع السفر لم يهتم بها أحد في ذلك اليوم .. طقوس الوداع التي تبدأ بمنزل المُسافر ليلاً ثم تتواصل صباحاً عند البص ، ومن ثم العودة إلى منزل المسافر مرة أخري ليقال لأهله "يكتب سلامتو" ، ثم مرة أخرى بعد أن يرد الاتصال الهاتفي مؤكداً وصوله سالماً إلى حيث يقصد ليحمدوا " خبر الخير " ، كل هذا لم يعبأ به أحد هذه المرة ..
الجميع بدا منشغلاً غير متفرغ لمتابعة الحدث في فجر ذلك الخميس .. حتى الذين تصادف وجودهم – لسبب أو آخر – أمام دكان مصطفى حيث يقف البص لم يولوا الحدث اهتماماً كافياً .. في ما بعد عندما يتذكر مصطفي ذلك اليوم سيقول بتعجب " لم نر في ذلك أمراً يثير الاهتمام .. الحقيقة أنه كان مدعاة لسخرية بعضنا أكثر من أي شيء آخر" ..
بعض الذين وجدوا في الدكان ذلك الصباح لم يتذكروا ما حدث .. أنكر كثير منهم أن تكون عرضو قاسي قد سافرت .. السفر الذي لم يكن مفاجئاً بحال من الأحوال مرّ دون أي إهتمام من القرية .. عرضو قاسي كانت قد أعلنت عزمها على السفر منذ أكثر من أسبوع .. شاهدها كثيرون تحزم حاجياتها وتوصي جاراتها ، لكن أحداًًًً لم يبد اهتماماً بما تفعله .. التجاهل التام والاستخفاف كانا رد الفعل على إعلان عرضو قاسي أنها ستهجر القرية إلى الخرطوم ..
قنديل الفريق التي كانت أقرب الناس إلى عرضو قاسي أوضحت فيما بعد ما خفي على كثيرين .. " ابنها جمال أرسل إليها لتلحق به .. قال أنه ابتنى داراً واسعة لا ينقصها إلا حضورها .. رفضت عرضو قاسي في البداية ، لكنه أصر .. أكثر من الخـطابات والوعود ، ثم أعقبها بالتهديد و الوعيد مما اضطرها للرضوخ " .
هذا التوضيح لفت الانتباه إلى أمر آخر .. هل كان لعرضو قاسي ابن اسمه جمال ؟
البعض شرد يتذكر وغرق كثيرون في الماضي .. بعضهم أعلن عجزه عن التذكر ، بينما تذكّر آخرون أن عرضو ولدت من زواج قصير طفلاً لا يذكر أحد مصيره بدقة ..
لكن الخبر اليقين كان عند منصور .. " جمال عبد الفارس كان معنا حتى المدرسة الوسطى .. كان يجلس بجواري.. صوته في الغناء لا يُجارى .. تسمعه فتحسبه النعام آدم .. كان أسوداً .. كأنه قلب الكافر .. حتى أسنانه كانت سوداء نخرة من كثرة التدخين .. أما عيناه فكانتا صفراويتين كثمرة مانجو ناضجة " .


هذا التأكيد الذي بعث ذكريات قديمة مهتزة كأنها التهاويم في الأذهان لفت الانتباه إلى أمر آخر بدا غريباً .. عرضو قاسي رغم المكانة التي تحتلها في القرية والأهمية التي تسيطر بها على الأحداث من حين لأخر كانت تقبع في منطقة وسيطة بين الحضور والنسيان في أذهان الجميع .. والآن وقد سافرت لا يستطيع أحد أن يجزم بدقة أنها وجدت في القرية إلا من خلال الأحداث – وما أكثرها – التي ارتبطت بها .. لكن شخصها ككيان عاشر الناس وعاش معهم كان مهتزاً متموجاً في الذاكرة وخاضعاً لكثير من الاحتمالات والأقاويل غير المؤكدة .. ما يذكره الجميع عنها بخلاف اسمها ومهنتها ، كان لونها الأسود وأصلها الذي لا خلاف عليه .. أما غير ذلك فقد اختلفوا فيه أشد الاختلاف .
مصطفي بحكم تعامله اليومي معها بصفته صاحب الدكان الوحيد في القرية كان يؤكد أنها لم تكن بالطيبة التي يزعمها البعض .. " كانت تجادل في ديونها .. كثيراً ما كانت تنكر حسابها في الدكان وتزعم أنني أستغل كبر سنها لأشوش على ذاكرتها بذكر أشياء لم تأخذها " ..
" دعت علي بالخراب أكثر من مرّة .. وحلفت بأغلظ الأيمان أنها لن تشتري مني مرّة أخرى .. لكنها إن لم تشتر مني فمن أين تأتي بالسكر ؟ "
فيما بعد .. وعندما وقعت الأحداث تذكر عمر شيخ المسجد أنها استفته مرة أو مرتين في بعض أمور الدين .
حاج محمد الحسن في أثناء المحنة تذكر أموراً كانت تحدث في زمن بعيد .. سرح محاولاً استحضارها لكن الحياء غلب على لسانه فلم ينطق بها .
بعد كثير من الجهد أجاب الذين يسألون عن تاريخ عرضو "رحم الله الشباب ونزقه .. يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدى لكم .. "
أما قنديل الفريق فظلّت على إصرارها أن عرضو كانت النعمة التي لم تشكرها القرية فزالت عنها .
الأحداث التي وقعت بعد سفر عرضو قاسي أكدت أن القرية لن تستطيع أن تنظر إلى هذا السفر بذات النظرة الأولى التي عبّر عنها مصطفي مستخفاً بقوله " سفر البن .. دق وحريق " .
عرضو قاسي الأمة السوداء القصيرة التي لا يُعرف لها أب على وجه التحديد على عادة الإماء في الشمال وإنما كانت تنسب إلى أمها كايداهم كانت القابلة الوحيدة في القرية .. وضعها في القرية كان تجاذباً بين أصلها كخادم بقيت بلا أسياد بعد انتهاء عهد الرق ومهنتها كداية شبه رسمية .


لا يذكر أحد على وجه التحديد متى بدأت عرضو عملها كداية .
حاج إبراهيم سالينتود يؤكد أن عرضو كانت تمارس التوليد منذ وعي علي هذه الدنيا ..
في أحيان أخرى يقسم أنها من ولّدت أمه عندما حملت به .. لكن هذا القول ربما حمل الكثير من المبالغة لأن إبراهيم سالينتود كان قد شهد أكثر من سبعين موسماً لحصاد البلح..
عندما تزوجت عبد الفارس – من هو عبد الفارس ؟ لا أحد يذكر – هل كانت داية ؟ ما أكده منصور أن أحد أسباب هجرة جمال عبد الفارس للقرية كان سخرية بعض الشباب منه في حفل زواج عندما تحفّز للبطان وكشف عن ظهر أسود عريض كجزع شجرة لبخ محترقة بقولهم " العبد ابن الداية لن يصبر على السوط " .
بعد كثير من الجهد والتقصي واستبعاد الروايات المبالغة يمكن القول أن عرضو كانت داية القرية منذ أربعة وثلاثين عاماً .. أما ما قبل ذلك فهو أمر يخضع للاحتمالات ولكثير من التكهنات والروايات غير الموثوق بها .. عرضو كانت هي من ولّدت فاطمة بنت العمدة أحمد بابنها منصور .. فاطمة لم تنس أبداً أن عرضو حملت منصور بين يديها وهو بعد لحمة حمراء لم تستبن لها ملامح وقالت " وجه مشرق لصبي مظفّر منصور " تفاؤل فاطمة بكلمات عرضو كانت السبب في تسمية منصور بهذا الاسم ، ومنصور يعرف جيداً أن له من العمر أربعة وثلاثين عاماً .


النظر إلى سفر عرضو قاسي باعتباره " سفر البن " كان سببه هذا الحضور غير المحدد في الأذهان .. لم تكن عرضو تظهر على سطح الاهتمام إلا عند اقتراب ولادة إحدى النساء .. هذه الولادة التي تحدث كل شهرين أو ثلاثة كانت تجعل عرضو إحدى أهم شخصيات القرية ، بل لعل الاهتمام بها يفوق الاهتمام بالمرأة الحامل .. مع دخول الحمل شهره الأخير كانت عرضو هي من يحدد متى ستلد المرأة والأغراض الضرورية لعملية الولادة .. وكانت تسمي احتياجات الحامل لأن " الولادة معجزة شاقة يختلف تأثيرها على الجسم من امرأة الأخرى " كما كانت تقول .. ما يتبع ذلك كان تأكد أهل الحامل كل صباح أن عرضو موجودة بالقرية لم تغادرها لسبب أو آخر .. ويستدعي هذا توفير احتياجاتها من الطعام والشاي و الصعوط الذي تدمنه .. يقول حاج إبراهيم سالينتود " لا أحد يحب أن تلد امرأته فجأة بينما عرضو غائبة تبحث عن الصعوط في مكان ما" .
كل هذا الاهتمام مرده الأول إلى مهارة عرضو في التوليد ، بجانب أنها – وهذا سبب كاف وحده – كانت القابلة الوحيدة في المنطقة .. أضف إلى ذلك مقدرة عرضو الغريبة على التنبؤ بنوع المولود قبل وقت طويل من ولادته .. وكانت تستدل على ذلك بأشياء غريبة كاسوداد حلمة الثدي وحشرجة الصوت ومخالطة النفَس له .. سبب أخر لم يكن يُذكر علناً لكنه كان يجعل عرضو محل شكر كثير من الرجال وتقديرهم .. ذلك كان مقدرتها على معالجة أمور معينة دقيقة بعد الولادة ، دفعت محمد أحمد صديق لمداعبتها مرة أمام جماعة من الناس باسم " عرضو قاسي عين الديك " في إشارة واضحة إلى مدى نجاح العملية الدقيقة التي تتطوع بإجرائها على الحامل لتعيد الأوضاع إلى خطأها الأول .. أما حاج إبراهيم سالينتود فقال في اليوم التالي لانقضاء فترة نفاس امرأته " صدق الله العظيم .. قاصرات الطرف لم يطمسهن إنس قبلهم ولا جان " ثم ضحك .
عرضو رغم ذلك كانت تتراجع عن دائرة الاهتمام لتغوص في أوحال النسيان بمجرد أن تتم الولادة .. قنديل الفريق قالت " ذكرها الله بالخير .. كانوا ينسونها بعد أن تضع الحامل حملها .. حتى أن بعضهم – ولا داع للأسماء – كان ينسى أن يشكرها على جهدها الذي بذلت .. بل بلغ الأمر ببعضهم – والمريب يكاد يقول خذوني – أنه نسي أن ينقدها أجرها أكثر من مرّة "


تاريخ عرضو قاسي الطويل في القرية والذي يتناوشه النسيان ويعترضه عدم الاهتمام ظهر على السطح مع بداية المشاكل .. صحيح أن الجميع نظروا إلى سفرها على أنه " سفر البن " في أول الأمر ، ولم يكلف أحد نفسه عناء وداعها عند البص كما جرت عادة القرية .. وصحيح أن الأمور سارت على ما يرام لمدة شهر أو يزيد بعد سفرها حتى أوشك كثيرون أن ينسوا أنها وجدت في هذه القرية ذات يوم ، لكن من زعم أن الأمور تبقى كما هي دوماً ؟
بدأت المشكلة بوفاة سعيدة زوجة محمد أحمد صديق .
سعيدة ذات الأعوام الثلاثين كانت تضع مولودها الخامس عندما توفيت .. ما أكدته فاطمة ابنة العمدة أحمد وغيرها من العجائز أنهن وقفن عاجزات أمام ألآم سعيدة والدماء القانية التي كانت تسيل على الفراش .. خديجة والدتها كانت تصرخ عليها والدموع تملأ وجهها " اضغطي .. الفرج قريب .. اضغطي " .
الصبية – كما تدعوها فاطمة بنت العمدة – لم تتحمل الضغط والألم وأشياء أخرى يجهلها الجميع .. فماتت .
فتحت عينيها و نظرت إلى المجهول و هتفت بوهن " وووب عليَ يا يمة " .. ثم صمتت إلى الأبد .
تقول فاطمة " لن أنسى أبداً رأس الوليد الذي ظهر عندما فاضت روحها .. كان أبيضاً جميل الملامح لكن قناع الموت البارد غطى وجهه سريعاً " .
الذين بكوا سعيدة وتناقلوا حكاية وفاتها وهي تضع مولودها ، وقصة الجنازة التي كُفّنت ورأس طفل يبرز من أسفلها لم يتلمسوا الأبعاد الحقيقية للمشكلة إلا بعد حين .. الحقيقة أن القطرة الأولى من المطر لا تدل على السيول .. لكن القطرة الثانية تكون مثيرة للاهتمام .. بعد أسبوع توفيت بلقيس ابنة فاطمة بنت العمدة أحمد وهي تلد .. قنديل الفريق أكدت أن سبب الوفاة هو أنهم انتزعوا الطفل من أحشائها بقوة .. " لا يدري أحدهم ما أحدثوا بداخلها .. لكنهم عندما جذبوا الطفل بقوة كأنه عمود بابور إنجليزي ينزع من مكانه سال الدم الذي لم يوقفه إلا الموت " .
هنا كان للكثيرين الحق في أن يتساءلوا " هل كانت هذه الوفيات ستحدث لو أشرفت عرضو قاسي على الولادة ؟! "
مصطفي – مدفوعاً بفضوله القوي – سأل حاج محمد الحسن أكبر المعمرين في القرية عن وفيات حدثت أثناء الولادة من قبل، لكن حاج محمد الحسن أكد أن هذا لم يحدث منذ كانت له ذاكرة .. هل كان ذلك كافياً لإدراك أبعاد المشكلة التي تواجه قرية كلّرو؟! يمكننا الجزم أن وفاة صفية الماحي بعد يومين وما تلاها من أحداث كان هو ما وضع القرية أمام مشكلتها وجهاً لوجه .
وفاة صفية الماحي – التي حدثت أثناء الولادة أيضاً – وقعت قبل أيام من الموعد المحدد لزواج سمية شقيقة مصطفي من عبد الرحيم التوم .. القرار الذي اتخذته سمية كان بداية إدراك القرية لمحنتها .. سمية أصرّت على تأجيل زواجها إلى أجل غير مسمى .. السبب الذي ذكرته لم يجل ببال أحد من قبل لكنها بذكره نبهت الكثيرين إلى حقيقة غابت عن بالهم .
قالت سمية " لست مستعدة للزواج الآن لأموت بعد عام وأنا أضع طفلاً لن يخرج للحياة .. إذا لم تقدم لي الضمانات الكافية عن من سيقوم بتوليدي فإني غير مستعدة للمخاطرة بحياتي " ..
حاج إبراهيم سالينتود الذي اعتبر هذا الكلام دليلاً بيناً على فساد الزمان وخراب أخلاق الفتيات إذ يتحدثن في أمور مشينة كهذه علناً وجد نفسه مضطراً للاعتراف بأن " هذه الفتاة بعيدة النظر حقاً " .
أما عندما سرت الشائعات أن منصور طلّق زوجته لأنها منعته نفسها لذات السبب الذي ذكرته سمية فإن القوم أدركوا أن الأمر حقاً جد خطير .
المشاكل التي انتشرت في البيوت انتشار ظلمة ليلة شتوية لم يتطوع أحد ببحثها علناً لكن آثارها كانت ظاهرة .. ما بدا كهجرة محمومة للنساء من بيوت أزواجهن إلى بيوت الآباء وما صاحب ذلك من وجوم على وجوه كثير من الرجال كان يخبر يصدق عن حجم المشكلة التي تعيشها كلّرو.
حوادث الوفيات التي حدثت بعد ذلك لثلاث أو أربع نساء كن حوامل قبل رحيل عرضو قاسي أكدت عمق الكارثة الوشيكة .


بابكر الأعرابي الذي يفد إلى القرية كل فترة وأخرى حاملاً حاجيات النساء وما يلزمهن خصوصاً دون غيرهن فوجئ بما لم يكن في حسبانه .. قال ذاهلاً " للمرة الأولى منذ اثني عشرة عاماً لا أبيع شيئاً .. ماذا أصاب هذه القرية ؟ عرضت الطلح والدلكة والبخور واللبان فلم يشتر مني أحد .. الأعشاب المقوية التي كن النساء يتقاتلن عليها ويوصينني بها بكثير من الحرص والتكتم ليقدمنها لأزواجهن خلسة طمعاً في إطالة عمر لحظات خاصة عادة ما تمر فاترة لم تجد مشترية تنظر إليها " .
وللمرة الأولى في تاريخ كلّرو يدخل عليها موسم حصاد البلح دون إستعدادت للزواج .. جرت العادة في القرية – كغيرها من قرى الشمال – أن يكون موسم البلح هو موسم التزاوج .. حاج محمد الحسن بذاكرته المعمرة – وقد صار أحد المراجع الرئيسية في الأيام الأخيرة لمقارنة الأحداث بما سبق – يؤكد أن موسماً واحداً للحصاد لم يمر من قبل دون زيجتين على الأقل .. أما هذا الموسم فكان شيئاً مختلفاً .. عزوف الناس عن الزواج بعد الأحداث كان أمراً مفهوماً للجميع .
الشيء الذي احتاج إلى التوضيح والشرح كان الطبع الحاد الثائر الذي اتصف به أهل القرية في الفترة الأخيرة .. أي خلاف صغير كان يمكن تجاوزه في الماضي أصبح سبباً للعراك والقطيعة في هذه الأيام .. منصور – مستنداً إلى شيء من ثقافته الجامعية إذ درس فصلين دراسيين بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ثم تنكبها و عاد إلى كلرو محزونا – همس لمصطفي موضحاً بتعابير عاجزة عن إدراك المعنى " الإنسان مخزن محدود للطاقة إذا لم يستطع تفريغها صعدت إلى دماغه وأثرت على مزاجه " .
مصطفي عندما حكى هذا الكلام لغيره علق بخبث " لكنه لم يذكر شيئاً عن الكرامة الجريحة لزوج ترفضه زوجته".
إمام المسجد عمر ابن الحاج محمد الحسن كان أول من دعا الناس للبحث عن حل .. في يوم الجمعة تلا خطبة ذكّرت الكثيرين بخطبة العقد التي يلقيها عند الزواج .. قال أن الله جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف ، وأن الزواج نصف الدين .. قال " ذهب كثير من العلماء إلى أن الزواج واجب على المستطيع .. وما حال دون الواجب لزمت إزالته " .. ثم ختم خطبته بأن نهى الناس عن التهاون ، وذكرهم أن معظم النار من مستصغر الشرر .
علّق البعض على الخطبة بأنها غضبة من الشيخ عمر لأخته التي طلقها منصور ، وأسفاً على زوجته التي هجرته .. لكن عبد الرحيم التوم – ربما مدفوعاً برغبته في إتمام الزواج – دعا إلى عقد اجتماع عاجل لمناقشة المشكلة .


الاجتماع الذي عقد في أمسية نفس يوم الجمعة كان حدثاً غير مسبوق في تاريخ القرية .. في ما بعد سيقسم مصطفي أنه لم ير كل أهل كلّرو مجتمعين في مكان واحد إلا ذلك اليوم في فناء النادي .. الأهمية القصوى للاجتماع أسقطت كثيراً من التحفظات والتقاليد المتبعة في أمثال هذه الاجتماعات .. اختلاط الرجال والنساء الذي وصل حد الامتزاج ، والحوار الصريح ، وعدم تركز مقاليد الحديث لدى أشخاص بعينهم كما هي العادة ، كانت أشياء تظهر لأول مرّة في اجتماعات قرية في الشمال .. منصور عندما يتذكر ذلك اليوم الرهيب يقول " الحق أن ذلك اليوم أكد على انقسام تاريخ كلّرو إلى مرحلتين .. مرحلة عرضو قاسي ومرحلة ما بعد عرضو قاسي " .
المشاكل التي طرحت ذلك اليوم – واصطلح جماعة من شباب القرية ذوي الثقافة على تسميتها تحديات مرحلة ما بعد عرضو– كانت تتلخص في عزوف الشباب عن الزواج ، وانخفاض نسبة المواليد إلى الصفر مع استمرار حالات الوفاة ، أضف إلى ذلك التوتر والهياج المسيطران على طباع الجميع .. الشيخ عمر أضاف في كثير من الحرج " وهجر النساء أزواجهن .. وما في ذلك من تضييع لحقوق الزوج التي أمر الله بها ورسوله " .
اقتراح حاج إبراهيم سالينتود بتجاهل الأمر ونسيانه لقي معارضة شديدة .. صرخت فاطمة بنت العمدة أحمد – وللمرة الأولى في حياتها تتحدث أمام جمع من الرجال – "لن تموت نساء قريتنا إرضاءً لنزواتكم .. وفروا لنا داية وسيعود كل شيء إلى طبيعته " ..
ارتفعت الأصوات وساد التخبط في الآراء وأوشك الاجتماع أن يفشل عندما طلبت سمية فرصة للحديث .
اقتراح سمية الذي ألقته بكثير من العقلانية والهدوء وهي تنظر إلى عبد الرحيم التوم من طرف خفي كان وجيهاً بما لا يقاس بغيره من المقترحات .. اقترحت سمية أن يسافر وفد من وجهاء القرية إلى المدينة .
" .. هناك عليهم أن يقنعوا المسئولين بمأساتنا .. أخبروهم أن قرية كاملة – مجهولة لديهم – تحتضر لتوقف قانون الطبيعة فيها .. قولوا لهم أن كلّرو تموت ببطء .. كلما مات واحد هنا كان هذا طريقاً إلى نهاية القرية التي لم تعد تستطع أن تسد عجزها وفق قوانين الطبيعة .. الحل موجود لديهم .. متوفر بكثرة .. هذا الحل أسمه الطبيب " .
الاقتراح الذي لقي موافقة كاسحة من الجميع شُرِع في تنفيذه بأسرع مما تخيلت سمية وهي تلقيه .. في لحظات من الصدق تصيب نفسها وتجعلها تعري دواخلها تعترف " لم أكن واثقة عندما ذكرته أنه سيجد هذا القبول .. ما دفعني للكلام هو إحساسي بالعجز أمام المشكلة التي نواجهها وظلالها التي تلقيها على حياتي بصورة خاصة " .


الوفد الذي تكّون على عجل برئاسة الحاج إبراهيم سالينتود وعضوية مصطفي ومنصور وعبد الرحيم وآخرين اجتمع مرتين في منزل مصطفي لصياغة مطلب القرية بصورة مناسبة تقنع المسئولين .. الصياغة التي تمت وعرضت في اجتماع موسع لقيت قبولاً وموافقة دون كثير مراجعة .. أما سمية فاقترحت في هذا الاجتماع تكوين لجنة محلية للمتابعة والتسيير الداخلي يناط بها " ترتيب أوضاع القرية استعداداً لمواجهة متطلبات الطبيب الجديد " .
ما كان يدركه كل فرد أن عملية استقدام طبيب مقيم في القرية تحتاج إلى كثير من الجهد والاستعداد .. والأموال .. بصورة مبدئية اتفقوا على مبلغ يجمع من الأهالي لتقديمه شهرياً للطبيب في صورة بدلية من بدليات الجهد والمشقة للعمل في الأرياف .. بعد يومين من تكوين لجنة المتابعة المحلية وبدءها في جمع المال المطلوب والبحث عن منزل يليق بالطبيب سافر الوفد المنتخب إلى المدينة ..

عشرة أيام مرّت على قرية كلّرو مليئة بالنشاط والتحفز وكثير من الترقب .. القرية التي نسيت همومها التقليدية وغرقت في دوامة عمل اللجنة المحلية فوجئت بعودة الوفد دون تنبيه أو أخطار .
العودة التي حدثت في صمت يغلّفه الوجوم أربكت الكل .. الذين فوجئوا بمصطفي يفتح دكانه صبيحة أحد الأيام تسألوا عن هذه العودة الصامتة التي حدثت .. وعندما ارتفع صوت الحاج إبراهيم سالينتود يؤذن لصلاة الظهر سارع كثيرون إلى الجامع وفي ظنهم أن نتيجة الرحلة ستعرض بعد الصلاة .. لكنهم قوبلوا بالصمت التام والألم الظاهر على الحاج إبراهيم .
الأخبار تسربت بعد ذلك كعادة القرية التي لا تعرف الأسرار .. طلب الوفد قوبل بالتجاهل الصريح .. وكل محاولة لإقناع المسئولين انتهت بلا مبالاة قاسية .. أما عندما حملوا آمالهم إلى نائب الدائرة - الذي ساندوه في الانتخابات حتى تسبب ذلك في سوء علاقة القرية ببعض القرى المجاورة – فإنهم لم يجدوا سوى البشارة بإقامة مصنع للطوب الحراري في القريب .. " خلال عامين أو ثلاثة " كما قال لهم وهو يبتسم .
سمية قالت لرفيقاتها وهي تبكي " المدينة رفضت أن تمد يدها إلينا .. ببساطة قالوا أن المشكلة هي مشكلتنا وعلينا أن نحلها وحدنا " .
الوفد الذي سماه المتندرون – في مرارة – وفد سمية لم يعلق على ما حدث وقيل .. ولسنوات طويلة ظل مصطفي يغضب كلما سئل عن تفاصيل رحلتهم تلك .. أما عبد الرحيم فظل يتعوذ من المدن وأهلها لفترة ويظهر عليه الألم والمعاناة كلما أضطره أمر هام للسفر إلى المدينة .. ووجدها حاج محمد الحسن فرصة ليحدث الشباب عن الحكومات في عهد الانجليز ومفتش المركز القادم من ضواحي يوركشاير الذي يحل مشكلات المواطنين قبل أن يحسوا بها .
توترت القرية بعد فشل رحلة الوفد .. انطوى الجميع على أنفسهم وخيمت سحابة من التوجس والإحباط على سماء المعاملات بين الأهالي .

سمية التي بكت يوم عودة الوفد مدفوعة بإحساسها الشخصي بالهزيمة ومعرفتها بما يعنيه الفشل من استمرار المشكلة التي تغرس تعقيداتها في صميم حياتها ، لم تهدأ .. حملت أفكارها وهواجسها إلى كثيرين .. ناقشت ، جادلت ، وبكت .. أخيراً وبعد أيام من العناء كان لديها ما يمكن اعتباره حلاً حملته إلى حاج إبراهيم سالينتود .. نقاش طويل دار بينهما انتهى لصالحها .. بصورة سرية – قدر ما تحتمل القرية – عاود الوفد المهزوم اجتماعاته .. رفض منصور الفكرة مدفوعاً بكبريائه ورغبة منه في إبداء نوع من التميز بالممانعة .. الحقيقة أنه لو شك أن معارضته كانت ستفشل الوفد الجديد فإنه ما كان ليبديها أبداً . اما عبد الرحيم فقبلها من حيث المبدأ لكنه اعتذر عن المشاركة معلنا بدء مقاطعته للمدينة و ما فيها و من فيها ، و هي المقاطعة التي حافظ عليها ما وسعه بعد ذلك .
بعد يوم واحد سافر الوفد إلى الخرطوم .. هدف الرحلة – الذي تسرب كالعادة ليصبح سراً بين الجميع يتواطئون بذكره همساً – جعل شيء من الراحة يغمر النفوس .

الحل الذي اعتبره الجميع صائباً بل لاموا أنفسهم على عدم التفكير فيه منذ البداية كان البحث عن عرضو قاسي .. الوفد الذي سافر بعد أن انضمت إليه قنديل الفريق كان يحمل المشكلة هذه المرّة لعرضها على الداية عرضو قاسي بنت كايداهم مع دعوة حارة ومطلب وحيد ..
وهو عودتها إلى القرية .

***

هناك 3 تعليقات:

  1. حمور،لم انبهر قبلك بهكذا كلمات تقطر سودانية،تسافر بي لعوالم وافكار كثيييرة في كل حرف، في كل سطر...
    شكرا حمور...
    ولك ودي و احترامي

    ردحذف
  2. حمور..
    i'm speechless
    :)

    ردحذف
  3. ما أجمل السرد الذي يجعل من القاريء فرد من أفراد القصة
    لك خالص ودي


    تخريمة :
    زي كأني بعرف الصورة الفوق دي يا حمور

    أنور

    ردحذف