لا يوجد اشرار في هذه المدينة


[1]

و العنوان مقتبس من رائعة جابرييل ماركيز " لا يوجد لصوص في هذه المدينة " ..و كذا التاريخ في السودان .. بكل تناقضاته و مواقفه المتباينة إلا انه يحكم على ابطاله بذات المنطق بالبراءة ..يستوى في ذلك التاريخ المكتوب – و ما أقله – و التاريخ الشفوي .يكذب التاريخ السوداني المقولة الزاعمة " ان التاريخ يكتبه المنتصرون " .و ان صدقنا المقولة فلا مهزومين في تاريخ السودان ..الجميع ابطال شرفاء و إن تناقضت مواقفهم .ان كان التاريخ هو علم " النميمة المهذبة " على العموم .. فهو في السودان نميمة حيية خجول لا تسئ الى أحد .


[2]

الفترتان الاعظم في تاريخ السودان منذ 1821م دخول الترك الى السودان بقيادة اسماعيل باشا ذلك الشاب الطائش كما وصفه المؤرخون الذي لم يحسن معاملة المك نمر فدفع ثم ذلك شياً على نار هادئة مات مختنقا قبل ان تأكله الى 1899م حين دوت أخر طلقة في ام دبيكرات بعد مصرع الخليفة و من كان معه على سجاجيدهم .. و منذ 1899م حين استتب الأمر للحكم الثنائي الى 1956م حين رفرف العلم السوداني ذو الألوان الثلاثة على سارية سراي غردون و تحرر الناس " الكانو عبيد يا اسماعيل " ..كل الذين ملأوا فراغ هاتين الفترتين يمجدهم التاريخ و يحتفي بهم ..القاتل و المقتول ..هم في التاريخ " أهل الجنة التقوا فضرب بعضهم اعناق بعض " ..


[3]

يذكر التاريخ بكل المجد قتال الشايقية ضد جيش اسماعيل باشا في جبل داغر .. لكنه يسكت عن تحول ولائهم بعد ذلك و قتالهم في صف الدفتردار .. و حين يقول رودلف سلاطين في مذكراته إن المهدي عند دخوله الخرطوم أهدر دماء الشايقية فإن التاريخ يدير عينيه عن هذا التصريح حياءاً كعذراء مخدرة ترى ما يسوء .

هل كان سلاطين كاذبا في هذا ؟ هل هو صادق ؟لا يرد احد .


[4]

الموقف من الانجليز لم يسلم من هذا التضاد .. و ظل التاريخ على حياءه لا يصدر احكاما ..يمدح الشريف الهندي الحكم الانجليزي بقوله :" .. الأمة السودانية سوادها الأعظم و ملأها الأكبر مرتاحة و مطمئنة بما لم يسبق له مثيل .. و شاكرة بما تراه من العدل و الحرية و الأمن .. " .بل حتى رجال العصر المهدوي السابق لم يسلموا من هذا المسلك ..الشيخ الشاعر محمد عمر البنا صاحب القصيدة الرائعة ذات المطلع الشهير :

الحرب صبر و اللقاء ثبات و الموت في شأن الإله حياة

التي يصف فيها رجال المهدية بقوله :

قوم اذا حمي الوطيس رأيتهم شم الجباه و للضعيف حماة

و لباسهم سرد الحديد و بأسهم شهدت به يوم اللقا الغارات

و يحرض فيها على غزو الخرطوم بقوله :

فانهض الى الخرطوم إن بسوحه أهل الغواية و الضلالة باتوا

نبذوا الشريعة من وراء ظهورهم عن دينهم شغلتهم الشهوات

خذ جيشك المنصور لا تحفل بهم و لتقدمن أمامــــه الرايات

فتســورا لهم الخـــنادق و افعلوا فعل الصحابة اذ أتت غزوات

الشيخ كان مقربا من الخليفة التعايشي .. و من مستشاريه .. و كان هو من علم ابناء الخليفة الفقه و اللغة .هو ذات الشيخ الذي يذكر عنه بابكر بدري أنه في عام 1908م كان مفتشا للمحاكم الشرعية و زار مدرسة بمعية السير ونجت .. و حين قام أحد الطلبة بحل مسألة حسابية في الكسور العشرية سأله ونجت : " أأنت تعرف مثل هذا يا شيخ البنا ؟ " .. فكان جواب الشيخ :" لا أعرف يا سعادة الباشا .. و هل هذا و أمثاله كانت موجودة في السودان قبل أن تشرفوه ؟ " .. (!!! )السير ونجت ان لم تعرفه فهو الخواجه الذي خطط حملة غزو السودان .. و ادار لذلك حملة اعلامية كبيرة عن الثأر لغردون و استغل فيها هزيمة المهدية في توشكي .. و هو نفسه قائد حملة أم دبيكرات التي قتلت الخليفة و ابنه عثمان شيخ الدين تلميذ الشيخ البنا .


[5]

لم يلق التاريخ بالملامة على الذين صادقوا الإنجليز و لهجوا بالثناء عليهم بعد كرري .. فمن يحاسب من و قد انعم ملك بريطانيا على السيد عبد الرحمن المهدي بلقب فارس ( سير ) .. و تناساه التاريخ كأن لم يكن ..عفوا .. لم ينسه تماما فصحف الخمسينيات كانت تذكر اسمه بوصفه " السيد الحسيب النسيب السير عبد الرحمن المهدي " ..و من يحاسب من و سيف المهدي المنصور دفع الى السير عبد الرحمن " ليقاتل به اعداء الامبراطورية " كما قال الملك جورج ملك بريطانيا .


[6]

يقول الشيخ بابكر بدري في مذكراته للمستر ديفس مدير المخابرات في السودان عن السيد عبد الرحمن المهدي :" .. و اني لأعجب من حكومة عاقلة كهذه الحكومة ان تعدل عن مصادقة رجل واحد بمرضاته اليسيرة عليها لتحفظ بذلك قلوب ثلث رعيتها إن لم يكن نصفها .. و أعجب أكثر من أن السيد عبد الرحمن يقول لها انا صديقكم فتقول له انت عدونا .. " . (!!)


[7]

ثورة 1924م .. علي عبد اللطيف و صحبه .. عبد الفضيل و المستشفى العسكري و الموت وحيدا تحت الهدم .. اللواء الأبيض و أحلام الوطنية ..في يونيو 1924 م أرسل اعضاء جمعية اللواء الأبيض برقية للبرلمان المصري بمناسبة افتتاحه .. جاء فيها :" نحن المجتمعون هنا من أهالي السودان نتقدم باخلاصنا و ولائنا لصاحب الجلالة المليك المفدى و نشارككم في هذا العيد السعيد و لا نخشى من الوعد و الوعيد و لا نرضخ للنار و الحديد .. "و المليك المفدى المذكور هو الملك فؤاد الأول .. ملك مصر و السودان ...و يورد الأستاذ حسن نجيله نص دفاع اعضاء الجمعية عن انفسهم في الثورة التي قاموا بها :" .. علمنا أن هناك مساعي ترمي لفصل السودان عن مصر .. و الى تجزئة وادي النيل .. و علمنا أن مليك وادي النيل فؤاد الأول حصل التعريض به في محكمة جنايات الخرطوم .. " .هذا و الذين شاركوا في حملة ود النجومي لغزو عاصمة مليك البلاد لازالوا احياء ..بل منهم ابناء عبد الرحمن النجومي و أحدهم اصبح ياورا للواء محمد نجيب الرئيس المصري فيما بعد.و على الجانب الأخر وصفت جريدة " الحضارة " تحرك الضباط في 1924 بأنه حركة أولاد الشوارع .. و أن البلاد قد أهينت لما تظاهر أصغر و أوضع رجالها متحدثا باسمها .. و تتسأل الصحيفة :" من هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهورا حديثا ؟ و الى أي قبيلة ينسب ؟ "صحيفة الحضارة هي التي وصفها الأستاذ نجيلة بقوله : " .. أول صحيفة سودانية لحما و دما و روحا .. " .و كانت الصحيفة في ذلك الوقت مملوكة " للسادة " علي الميرغني و عبد الرحمن المهدي و الشريف يوسف الهندي .


[ 8 ]

الذين احتفوا بالجيوش الغازية وطنيون في التاريخ .و الذين ماتوا امام بنادق الجيوش الغازية وطنيون في التاريخ .يصطفون جوار بعضهم البعضم في اخاء يحسدون عليه.


[9]

قال عبيد حاج الأمين أحد قادة حركة 1924 م في محاكمته :" انكم تستطيعون ان تحاكموني .. لكنكم لن تستطيعوا الحكم عليَ .. فإن هذا للشعب و للتاريخ " .
لكن التاريخ السوداني خفر ذو حياء و أدب .. يفضل الحكم بمنطق " لا يوجد أشرار في هذه المدينة " .
سؤالنا للتاريخ و أهله : من خان الوطن ؟ من كان البطل و من كان الشرير ؟لا يوجد أشرار في هذه المدينة ..


***

هناك تعليقان (2):

  1. هههههه
    اضحكتنة والله

    صدقت فى اخاء يحسدون عليه جنب الى جنب
    هذا بالضبط ما يحدث من يبوم ان فتحت عيننا
    مقال رائع يرصد خلعة فى تاريخ وصفات اهل السودان
    المتاخية وانا اعيط ...
    مشكورجدا

    ردحذف